الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ فِرْعَوْنُ لِمَّا وَعَظَهُ الْمُؤْمِنُ مِنْ آلِهِ بِمَا وَعَظَهُ بِهِ وَزَجَرَهُ عَنْ قَتْلِ مُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ وَحَذَّرَهُ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عَلَى قِيلِهِ أَقْتُلُهُ مَا حَذَّرَهُ لِوَزِيرِهِ وَزِيرِ السُّوءِ هَامَّانَ: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} يَعْنِي بِنَاءً. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الصَّرْحِ فِيمَا مَضَى بِشَوَاهِدِهِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الْأَسْبَابِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسْبَابُ السَّمَوَاتِ: طَرُقُهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٌ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} قَالَ: طَرُقُ السَّمَوَاتِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} قَالَ: طُرُقُ السَّمَوَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِأَسْبَابِ السَّمَوَاتِ: أَبْوَابُ السَّمَوَاتِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَنَى بِهَذَا الْآجِرِ وَطَبَخَهُ {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ}: أَيْ أَبْوَابَ السَّمَوَاتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ مَنْزِلَ السَّمَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} قَالَ: مَنْزِلَ السَّمَاءِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ، أَنَّ السَّبَبَ: هُوَ كُلُّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ إِلَى الْوُصُولِ إِلَى مَا يَطْلُبُ مِنْ حَبْلٍ وَسُلَّمٍ وَطَرِيقٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ لَعَلِّي أَبْلُغُ مِنْ أَسْبَابِ السَّمَوَاتِ أَسْبَابًا أَتَسَبَّبُ بِهَا إِلَى رُؤْيَةِ إِلَهِ مُوسَى، طُرُقًا كَانَتْ تِلْكَ الْأَسْبَابُ مِنْهَا، أَوْ أَبْوَابًا، أَوْ مَنَازِلَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (فَأَطَّلِعَ) فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: "فَأَطَّلِعُ" بِضَمِّ الْعَيْنِ: رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: {أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} وَعَطْفًا بِهِ عَلَيْهِ. وَذُكِرَ عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ أَنَّهُ قَرَأَ (فَأَطَّلِعَ) نُصْبًا جَوَابًا لِلْعَلِيِّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ أَنْشَدَهُ: عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أَوْ دُولَاتِهَا *** يُدِلْنَنَا اللَّمَّةَ مِنْ لَمَّاتِهَا فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفَرَاتِهَا فَنُصِبَ فَتَسْتَرِيحُ عَلَى أَنَّهَا جَوَابٌ لِلْعَلَّ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ غَيْرَهَا الرَّفْعُ فِي ذَلِكَ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ: {وَإِنِّي لَأَظُنُهُ كَاذِبًا} يَقُولُ: وَإِنِّي لِأَظُنُّ مُوسَى كَاذِبًا فِيمَا يَقُولُ وَيَدَّعِي مِنْ أَنَّ لَهُ فِي السَّمَاءِ رِبًّا أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا. وَقَوْلُهُ: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} يَقُولُ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَهَكَذَا زَيَّنَ اللَّهُ لِفِرْعَوْنَ حِينَ عَتَا عَلَيْهِ وَتَمَرَّدَ، قَبِيحَ عَمَلِهِ، حَتَّى سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ بُلُوغَ أَسْبَابِ السَّمَوَاتِ، لِيَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى. وَقَوْلُهُ: {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءُ الْمَدِينَةُ وَالْكُوفَةُ: {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} بِضَمِّ الصَّادِ، عَلَى وَجْهِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} قَالَ: فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ، زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ. وَقَّرَأَ ذَلِكَ حُمَيْدٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَعَامَّةُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ "وَصَدَّ" بِفَتْحِ الصَّادِ، بِمَعْنَى: وَأَعْرَضَ فِرْعَوْنُ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الَّتِي ابْتُعِثَ بِهَا مُوسَى اسْتِكْبَارًا. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فَى ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ فِي قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا احْتِيَالُ فِرْعَوْنَ الَّذِي يَحْتَالُ لِلِاطِّلَاعِ إِلَى إِلَهِ مُوسَى، إِلَّا فِي خَسَارٍ وَذَهَابِ مَالٍَ وَغَبَنٍ، لِأَنَّهُ ذَهَبَتْ نَفَقَتُهُ الَّتِي أَنْفَقَهَا عَلَى الصَّرْحِ بَاطِلًا وَلَمْ يَنَلْ بِمَا أَنْفَقَ شَيْئًا مِمَّا أَرَادَهُ، فَذَلِكَ هُوَ الْخَسَارُ وَالتِّبَابُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} يَقُولُ: فِي خُسْرَانٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا،، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: (فِي تَبَابٍ) قَالَ: خَسَارٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}: أَيْ فِي ضَلَالٍ وَخَسَارٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} قَالَ: التَّبَابُ وَالضَّلَالُ وَاحِدٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنِ الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} يَقُولُ: إِنِ اتَّبَعْتُمُونِي فَقَبِلْتُمْ مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ، بَيَّنْتُ لَكُمْ طَرِيقَ الصَّوَابِ الَّذِي تُرْشَدُونَ إِذَا أَخَذْتُمْ فِيهِ وَسَلَكْتُمُوهُ وَذَلِكَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي ابْتَعَثَ بِهِ مُوسَى. يَقُولُ: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} يَقُولُ لِقَوْمِهِ: مَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْعَاجِلَةُ الَّتِي عُجِّلَتْ لَكُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ إِلَّا مَتَاعٌ تَسْتَمْتِعُونَ بِهَا إِلَى أَجَلٍ أَنْتُمْ بَالِغُوهُ، ثُمَّ تَمُوتُونَ وَتَزُولُ عَنْكُمْ {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} يَقُولُ: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَهِيَ دَارُ الْقَرَارِ الَّتِي تَسْتَقِرُّونَ فِيهَا فَلَا تَمُوتُونَ وَلَا تَزُولُ عَنْكُمْ، يَقُولُ: فَلَهَا فَاعْمَلُوا، وَإِيَّاهَا فَاطْلُبُوا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} اسْتَقَرَّتِ الْجَنَّةُ بِأَهْلِهَا، وَاسْتَقَرَّتِ النَّارُ بِأَهْلِهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ}. يَقُولُ: مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَلَا يَجْزِيهِ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا سَيِّئَةً مِثْلَهَا، وَذَلِكَ أَنْ يُعَاقِبَهُ بِهَا؛ {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} يَقُولُ: وَمَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَى الدُّنْيَا، وَائْتَمَرَ لِأَمْرِهِ، وَانْتَهَى فِيهَا عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} يَقُولُ: فَالَّذِينَ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ يَدْخُلُونَ فِي الْآخِرَةِ الْجَنَّةَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} أَيْ شِرْكًا، "السَّيِّئَةُ عِنْدَ قَتَادَةَ شَرْكٌ {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}، أَيْ خَيْرًا {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ}. وَقَوْلُهُ: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} يَقُولُ: يَرْزُقُهُمُ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ثِمَارِهَا، وَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمِهَا وَلَذَّاتِهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا هُنَاكُمْ مِكْيَالٌ وَلَا مِيزَانٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبَرًا عَنْ قِيلِ هَذَا الْمُؤْمِنِ لِقَوْمِهِ مِنَ الْكَفَرَةِ: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِهِ مُوسَى، وَتَصْدِيقِهِ فِيمَا جَاءَكُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} يَقُولُ: وَتَدْعُونَنِي إِلَى عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} قَالَ: الْإِيمَانَ بِاللَّهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} قَالَ هَذَا مُومِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، قَالَ: يَدْعُونَهُ إِلَى دِينِهِمْ وَالْإِقَامَةِ مَعَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} يَقُولُ: وَأُشْرِكَ بِاللَّهِ فِي عِبَادَتِهِ أَوْثَانًا، لَسْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَصْلُحُ لِي عِبَادَتُهَا وَإِشْرَاكُهَا فَى عِبَادَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْذَنْ لِي فِي ذَلِكَ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ. وَقَوْلُهُ: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} يَقُولُ: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْعَزِيزِ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ، الَّذِي لَا يَمْنَعُهُ إِذَا انْتَقَمَ مِنْ عَدُوٍّ لَهُ شَيْءٌ، الْغَفَّارُ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَعْصِيَتِهِ إِيَّاهُ، لِعَفْوِهِ عَنْهُ، فَلَا يَضُرُّهُ شَيْءٌ مَعَ عَفْوِهِ عَنْهُ، يَقُولُ: فَهَذَا الَّذِي هَذِهِ الصِّفَةُ صِفَتُهُ فَاعْبُدُوا، لَا مَا لَا ضُرَّ عِنْدَهُ وَلَا نَفْعَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}. يَقُولُ: حَقًّا أَنَّ الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْأَوْثَانِ، لَيْسَ لَهُ دُعَاءٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ جَمَادٌ لَا يَنْطِقُ، وَلَا يَفْهَمُ شَيْئًا. وَ بِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا} قَالَ: الْوَثَنُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ}: أَيْ لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ}. وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} يَقُولُ: وَأَنَّ مَرْجِعَنَا وَمُنْقَلَبَنَا بَعْدَ مَمَاتِنَا إِلَى اللَّهِ {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} يَقُولُ: وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْمُتَعَدِّينَ حُدُودَهُ، الْقَتَلَةَ النُّفُوسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا، هُمْ أَصْحَابُ نَارِ جَهَنَّمَ عِنْدَ مَرْجِعِنَا إِلَى اللَّهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ عَلَى اخْتِلَافٍ مِنْهُمْ فِي مَعْنَى الْمُسْرِفِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ سَفَّاكُو الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: ثَنَا حُكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} قَالَ: هُمُ السَّفَّاكُونَ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقِّهَا. حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} قَالَ: هُمُ السَّفَّاكُونَ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقِّهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} قَالَ: السَّفَّاكُونَ الدِّمَاءَ بِغَيْرِ حَقِّهَا، هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} قَالَ: سَمَّاهُمُ اللَّهُ مُسْرِفِينَ، فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ}: أَيِ الْمُشْرِكُونَ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْإِسْرَافِ فِيمَا مَضَى قَبْلَُ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ مِنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا اخْتَرْنَا، لِأَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِنَّمَا قَصَدَ فِرْعَوْنَ بِهِ لِكُفْرِهِ، وَمَا كَانَ هَمَّ بِهِ مِنْ قَتْلِ مُوسَى، وَكَانَ فِرْعَوْنُ عَالِيًا عَاتِيًا فِي كُفْرٍ. سَفَّاكًا لِلدِّمَاءِ الَّتِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ سَفْكُهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْإِسْرَافِ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ لِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ: فَسَتَذْكُرُونَ أَيُّهَا الْقَوْمُ إِذَا عَايَنْتُمْ عِقَابَ اللَّهِ قَدْ حَلَّ بِكُمْ، وَلَقِيتُمْ مَا لَقِيتُمُوهُ صِدْقَ مَا أَقُولُ، وَحَقِيقَةَ مَا أَخْبِرُكُمْ بِهِ مِنْ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ}، فَقُلْتُ لَهُ: أَوَ ذَلِكَ فِي الْأَخَرَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَقَوْلُهُ: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) يَقُولُ: وَأُسَلِّمُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ، وَأَجْعَلُهُ إِلَيْهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ الْكَافِي مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} قَالَ: أَجْعَلُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِأُمُورِ عِبَادِهِ، وَمَنِ الْمُطِيعُ مِنْهُمْ، وَالْعَاصِي لَهُ، وَالْمُسْتَحِقُّ جَمِيلَ الثَّوَابِ، وَالْمُسْتَوْجِبُ سَيِّئَ الْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَدَفَعَ اللَّهُ عَنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بِإِيمَانِهِ وَتَصْدِيقِ رَسُولِهِ مُوسَى، مَكْرُوهَ مَا كَانَ فِرْعَوْنُ يَنَالُ بِهِ أَهْلَ الْخِلَافَ عَلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْبَلَاءِ، فَنَجَّاهُ مِنْهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} قَالَ: وَكَانَ قِبْطِيًّا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، فَنَجَا مَعَ مُوسَى، قَالَ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى يَوْمَئِذٍ يَسِيرُ وَيَقُولُ: أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: أَمَامَكَ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُؤْمِنُ: وَهَلْ أَمَامِي إِلَّا الْبَحْرُ؟ فَيَقُولُ مُوسَى: لَا وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ وَلَا كَذَبْتَ، ثُمَّ يَسِيرُ سَاعَةً وَيَقُولُ: أَيْنَ أُمِرْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: أَمَامَكَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ أَمَامِي إِلَّا الْبَحْرُ، فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ، وَلَا كَذَبْتَ، حَتَّى أَتَى عَلَى الْبَحْرِ فَضَرَبَهُ بِعَصَاهُ، فَانْفَلَقَ اثْنَيْ عَشَرَ طَرِيقًا، لِكُلِّ سِبْطٍ طَرِيقٌ. وَقَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} يَقُولُ: وَحَلَّ بِآلِ فِرْعَوْنَ وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ؛ وَعَنَى بِآلِ فِرْعَوْنَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ تُبَّاعَهُ وَأَهْلَ طَاعَتِهِ مِنْ قَوْمِهِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} قَالَ: قَوْمِ فِرْعَوْنَ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {سُوءَ الْعَذَابِ}: مَا سَاءَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ نَارُ جَهَنَّمَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- مُبَيِّنًا عَنْ سُوءِ الْعَذَابِ الَّذِي حَلَّ بِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ذَلِكَ الَّذِي حَاقَ بِهِمْ مِنْ سُوءِ عَذَابِ اللَّهِ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} إِنَّهُمْ لَمَّا هَلَكُوا وَغَرَّقَهُمُ اللَّهُ، جُعِلَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ، فَهِيَ تَعْرَضُ عَلَى النَّارِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ، عَنِ الْهُذَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تَغْدُو وَتَرُوحُ عَلَى النَّارِ، وَذَلِكَ عَرْضُهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ أَرْوَاحَ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ تُعْرَضُ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ قَالَ: ثَنَا حَمَّادُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَزَارِيُّ الْبَلْخِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ، رَأَيْنَا طُيُورًا تَخْرُجُ مِنَ الْبَحْرِ تَأْخُذُ نَاحِيَةَ الْغَرْبِ بِيضًا، فَوْجًا فَوْجًا، لَا يَعْلَمُ عَدَدَهَا إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا كَانَ الْعَشِيُّ رَجَعَ مُثُلُهَا سُودًا، قَالَ: وَفَطِنْتُمْ إِلَى ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعُمْ، قَالَ: إِنَّ تِلْكَ الطُّيُورَ فِي حَوَاصِلِهَا أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ يُعَرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فَتَرْجِعُ إِلَى وَكُورِهَا وَقَدِ احْتَرَقَتْ رِيَاشُهَا، وَصَارَتْ سَوْدَاءَ، فَتَنْبُتُ عَلَيْهَا مِنَ اللَّيْلِ رِيَاضٌ بَيْضٌ، وَتَتَنَاثَرُ السُّودُ، ثُمَّ تَغْدُو، وَيُعَرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، ثُمَّ تَرْجِعُ إِلَى وَكُورِهَا، فَذَلِكَ دَأْبُهَا فِي الدُّنْيَا؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} قَالُوا: وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهُمْ سِتُّ مِئَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: ثَنِي حَرْمَلَةُ، عَنْ سُلَيْمَانُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعْبٍ الْقُرَظِيَّ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْآخِرَةِ لَيْلٌ وَلَا نِصْفُ نَهَارٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بُكْرَةٌ وَعَشِيٌّ، وَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ فِي آلِ فِرْعَوْنَ {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} وَكَذَلِكَ قَالَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. وَقِيلَ: عَنَى بِذَلِكَ: أَنَّهُمْ يَعْرَضُونَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ فِي النَّارِ تَعْذِيبًا لَهُمْ غُدُوًّا وَعَشِيًّا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قَالَ: يَعْرَضُونَ عَلَيْهَا صَبَاحًا وَمَسَاءً، يُقَالُ لَهُمْ: يَا آلَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ مَنَازِلُكُمْ، تَوْبِيخًا وَنِقْمَةً وَصِغَارًا لَهُمْ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {غُدُوًّا وَعَشِيًّا} قَالَ: مَا كَانَتِ الدُّنْيَا. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ يَعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا. وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْعَرْضُ عَلَى النَّارِ عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْهُذَيْلِ وَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ، وَأَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ قَتَادَةَ، وَلَا خَبَرَ يُوجِبُ الْحُجَّةَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنِيُّ بِهِ، فَلَا فِي ذَلِكَ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ، وَهُمْ أَنَّهُمْ يَعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، وَأَصْلُ الْغُدُوِّ وَالْعَشِيِّ مَصَادِرٌ جُعِلَتْ أَوْقَاتًا. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُهُ ظَلَامًا؛ جَعَلَهُ ظَرْفًا وَهُوَ مَصْدَرٌ. قَالَ: وَلَوْ قُلْتَ: مَوْعِدُكَ غُدْوَةٌ، أَوْ مَوْعِدُكَ ظَلَامٌ، فَرَفَعْتَهُ، كَمَا تَقُولُ: مَوْعِدُكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، لَمْ يَحْسُنْ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَادِرَ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ نَحْوِ سَحَرٍ لَا تُجْعَلُ إِلَّا ظَرْفًا؛ قَالَ: وَالظَّرْفُ كُلُّهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ؛ وَقَالَ نَحْوِيُّو الْكُوفَةِ: لَمْ يُسْمَعْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مَصَادِرَ، إِلَّا التَّعْرِيبُ: مَوْعِدُكَ يَوْمَ مَوْعِدِكَ صَبَاحٌ وَرَوَاحٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} فَرُفِعَ، وَذَكَرُوا أَنَّهُمْ سَمِعُوا: إِنَّمَا الطَّيْلَسَانُ شَهْرَانِ قَالُوا: وَلَمْ يُسْمَعْ فِي الْأَوْقَاتِ النَّكِرَاتِ إِلَّا الرَّفْعُ إِلَّا قَوْلَهُمْ: إِنَّمَا سَخَاؤُكَ أَحْيَانًا، وَقَالُوا: إِنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى: إِنَّمَا سَخَاؤُكَ الْحِينُ بَعْدَ الْحِينِ، فَلَمَّا كَانَ تَأْوِيلُهُ الْإِضَافَةَ نُصِبَ. وَقَوْلُهُ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ سِوَى عَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ} بِفَتْحِ الْأَلِفِ مِنْ أَدْخِلُوا فِي الْوَصْلِ وَالْقَطْعِ بِمَعْنَى: الْأَمْرُ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ. وَإِذَا قُرِئَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ الْآلُ نَصْبًا بِوُقُوعِ أَدْخِلُوا عَلَيْهِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ عَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو: " {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} " بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَسُقُوطِهَا فِي الْوَصْلِ مِنَ اللَّفْظِ، وَبِضَمِّهَا إِذَا ابْتُدِئَ بَعْدَ الْوَقْفِ عَلَى السَّاعَةِ، وَمَنْ قَرَأَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، كَانَ الْآلُ عَلَى قِرَاءَتِهِ نَصْبًا بِالنِّدَاءِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى قِرَاءَتِهِ: ادْخُلُوا يَا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ مُتَقَارِبَتَا الْمَعْنَى قَدْ قَرَأَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْقُرَّاءِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذَنْ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقَالُ لِآلِ فِرْعَوْنَ: ادْخُلُوا يَا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، فَهَذَا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ وَصَلَ الْأَلِفَ مِنِ ادْخُلُوا وَلَمْ يَقْطَعْ، وَمَعْنَاهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَقُولُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}، {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} يَقُولُ: وَإِذْ يَتَخَاصَمُونَ فِي النَّارِ. وَعَنَى بِذَلِكَ: إِذْ يَتَخَاصَمُ الَّذِينَ أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِنْذَارِهِمْ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِهِ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ مِنْهُمْ وَهُمُ الْمُتَّبَعُونَ عَلَى الشِّرْكِ بِاللَّهِ {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} تَقُولُ لِرُؤَسَائِهِمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ عَلَى الضَّلَالَةِ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا تَبَعًا عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} الْيَوْمَ {عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} يَعْنُونَ حَظًّا فَتُخَفِّفُوهُ عَنَّا، فَقَدْ كُنَّا نُسَارِعُ فِي مَحَبَّتِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ قَبْلِكُمْ أَتَيْنَا، لَوْ لَا أَنْتُمْ لَكُنَّا فِي الدُّنْيَا مُؤْمِنِينَ، فَلَمْ يُصِبْنَا الْيَوْمَ هَذَا الْبَلَاءُ؛ وَالتَّبَعُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمَاعَةً فِي قَوْلِ بَعْضِ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ، وَفِي قَوْلِ بَعْضِ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ، لِأَنَّهُ كَالْمَصْدَرِ. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ كَانَ وَاحِدُهُ تَابِعٌ، فَيَكُونُ مِثْلَ خَائِلٍ وَخَوَلٍ، وَغَائِبٍ وَغَيَبٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُ جَمَعٌ وَاحِدُهُ تَابِعٌ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا فَيَكُونُ جَمْعُهُ أَتْبَاعٌ. فَأَجَابَهُمُ الْمَتْبُوعُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الْمَتْبُوعُونَ عَلَى الضَّلَالَةِ فِي الدُّنْيَا: إِنَّا أَيُّهَا الْقَوْمُ وَأَنْتُمْ كُلُّنَا فِي هَذِهِ النَّارِ مُخَلِّدُونَ، لَا خَلَاصَ لَنَا مِنْهَا {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} بِفَصْلِ قَضَائِهِ، فَأَسْكَنَ أَهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلَ النَّارِ النَّارَ، فَلَا نَحْنُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ خَارِجُونَ، وَلَا هُمْ مِمَّا فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ مُنْتَقِلُونَ، وَرُفِعَ قَوْلُهُ (كُلٌّ) بِقَوْلِهِ (فِيهَا) وَلَمْ يَنْصَبْ عَلَى النَّعْتِ. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ النَّصْبِ فِي ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: إِذَا لَمْ يُضِفْ "كُلٌّ" لَمْ يَجُزِ الِاتِّبَاعُ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْحَذْفِ وَغَيْرِ الْحَذْفِ، لِأَنَّ أَسْمَاءَهَا إِذَا حُذِفَتِ اكْتَفِي بِهَا مِنْهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَابَ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوَا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوَا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَقَالَ أَهْلُ جَهَنَّمَ لِخَزَنَتِهَا وَقُوَّامِهَا، اسْتِغَاثَةً بِهِمْ مِنْ عَظِيمِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَرَجَاءِ أَنْ يَجِدُوا مِنْ عِنْدِهِمْ فَرَجًا {ادْعُوَا رَبَّكُمْ} لَنَا {يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا} وَاحِدًا، يَعْنِي قَدْرَ يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا (مِنَ الْعَذَابِ) الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: مَعْنَى ذَلِكَ: قَدْرَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْآخِرَةَ يَوْمٌ لَا لَيْلَ فِيهِ، فَيُقَالُ: خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا. وَقَوْلُهُ: {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: قَالَتْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ لَهُمْ: أَوْ لَمْ تَكْ تَأْتِيكُمْ فِي الدُّنْيَا رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ، فَتُوَحِّدُوهُ وَتُؤْمِنُوا بِهِ، وَتَتَبَرَّءُوا مِمَّا دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَدْ أَتَتْنَا رُسُلُنَا بِذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {قَالُوا فَادْعُوَا} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَتِ الْخَزَنَةُ لَهُمْ: فَادْعُوَا إِذَنْ رَبَّكُمُ الَّذِي أَتَتْكُمُ الرُّسُلُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} يَقُولُ: قَدْ دَعَوْا وَمَا دُعَاؤُهُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ، لِأَنَّهُ دُعَاءٌ لَا يَنْفَعُهُمْ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ، بَلْ يُقَالُ لَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}. يَقُولُ الْقَائِلُ: وَمَا مَعْنَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ أَعْدَاؤُهُ، وَمَثَّلُوا بِهِ، كَشَعْيَاءَ وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَأَشْبَاهِهِمَا. وَمِنْهُمْ مِنْ هَمَّ بِقَتْلِهِ قَوْمُهُ، فَكَانَ أَحْسَنُ أَحْوَالِهِ أَنْ يَخْلَصَ مِنْهُمْ حَتَّى فَارَقَهُمْ نَاجِيًا بِنَفْسِهِ، كَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي هَاجَرَ إِلَى الشَّامِ مِنْ أَرْضِهِ مُفَارِقًا لِقَوْمِهِ، وَعِيسَى الَّذِي رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ إِذْ أَرَادَ قَوْمُهُ قَتْلَهُ، فَأَيْنَ النُّصْرَةُ الَّتِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ يَنْصُرُهَا رُسُلَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهَؤُلَاءِ أَنْبِيَاؤُهُ قَدْ نَالَهُمْ مَنْ قَوْمِهُمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَمَا نُصِرُوا عَلَى مَنْ نَالَهُمْ بِمَا نَالَهُمْ بِهِ؟ قِيلَ: إِنَّ لِقَوْلِهِ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وَجْهَيْنِ كِلَاهُمَا صَحِيحٌ مَعْنَاهُ. أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: إِنَّا لِنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِمَّا بِإِعْلَائِنَاهُمْ عَلَى مَنْ كَذَّبَنَا وَإِظْفَارِنَا بِهِمْ، حَتَّى يَقْهَرُوهُمْ غَلَبَةً، وَيُذِلُّوهُمْ بِالظَّفَرِ ذِلَّةً، كَالَّذِي فُعِلَ مِنْ ذَلِكَ بِدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، فَأَعْطَاهُمَا مِنَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ مَا قَهَرَا بِهِ كُلَّ كَافِرٍ، وَكَالَّذِي فُعِلَ بِمُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِظْهَارِهِ عَلَى مَنْ كَذَّبَهُ مَنْ قَوْمِهِ، وَإِمَّا بِانْتِقَامِنَا مِمَّنْ حَادَّهُمْ وَشَاقَّهُمْ بِإِهْلَاكِهِمْ وَإِنْجَاءِ الرُّسُلِ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ وَعَادَاهُمْ، كَالَّذِي فَعَلَ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- بِنُوحٍ وَقَوْمِهِ، مِنْ تَغْرِيقِ قَوْمِهِ وَإِنْجَائِهِ مِنْهُمْ، وَكَالَّذِي فُعِلَ بِمُوسَى وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِذْ أَهْلَكَهُمْ غَرَقَا، وَنَجَّى مُوسَى وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ بِانْتِقَامِنَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ مُكَذِّبِيهِمْ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِنَا مِنْ بَعْدِ مَهْلِكِهِمْ، كَالَّذِي فَعَلْنَا مَنْ نُصْرَتِنََا شَعْيَاءَ بَعْدَ مَهْلِكِهِ، بِتَسْلِيطِنَا عَلَى قَتْلِهِ مَنْ سَلَّطْنَا حَتَّى انْتَصَرْنَا بِهِمْ مِنْ قَتَلَتِهِ، وَكَفِعْلِنَا بِقَتَلَةِ يَحْيَى، مِنْ تَسْلِيطِنَا بَخْتِنْصَرَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَصَرْنَا بِهِ مِنْ قَتْلِهِ لَهُ وَكَانْتِصَارِنَا لِعِيسَى مِنْ مُرِيدِي قَتْلِهِ بِالرُّومِ حَتَّى أَهْلَكْنَاهُمْ بِهِمْ، فَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْهِ. وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ يُوَجِّهُ مَعْنَى ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنٍ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلُ اللَّهِ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قَدْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ يُقْتَلُونَ فِي الدُّنْيَا وَهُمْ مَنْصُورُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ الَّتِي تَفْعَلُ ذَلِكَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَا تَذْهَبُ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ قَوْمًا فَيَنْتَصِرُ بِهِمْ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْهُمْ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْجَمِيعِ مِنَ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، فَيَكُونُ تَأْوِيلَ الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: إِنَّا لِنَنْصُرُ رَسُولَنَا مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ، كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ تَُخْرِجُ الْخَبَرَ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ إِذَا لَمْ تُنَصِّبُ لِلْخَبَرِ شَخْصًا بِعَيْنِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} فَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ (وَيَوْمَ يَقُومُ) بِالْيَاءِ. وَيَنْفَعُ أَيْضًا بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ وَبَعْضُ قُرَّاءِ الْبَصْرَةِ: "تَقُومُ" بِالتَّاءِ، وَ"تَنْفَعُ" بِالتَّاءِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى أَنَّ الْعَرَبَ تُذَكِّرُ فِعْلَ الرَّجُلِ وَتُؤَنِّثُ إِذَا تَقَدَّمَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَعَنَى بِقَوْلِهِ: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا بِالشَّهَادَةِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ، وَأَنَّ الْأُمَمَ كَذَّبَتْهُمْ. وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَهِيدٍ، كَمَا الْأَشْرَافُ: جَمْعُ شَرِيفٍ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ. {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ وَأَنْبِيَائِهِ، وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} قَالَ الْمَلَائِكَةُ. وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: ذَلِكَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ أَهْلَ الشِّرْكِ اعْتِذَارُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتَذِرُونَ إِنِ اعْتَذَرُوا إِلَّا بِبَاطِلٍ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ فِيهَا فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا الِاعْتِصَامَ بِالْكَذِبِ بِأَنْ يَقُولُوا: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} يَقُولُ: وَلِلظَّالِمِينَ اللَّعْنَةُ، وَهِيَ الْبُعْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} يَقُولُ: وَلَهُمْ مَعَ اللَّعْنَةِ مِنَ اللَّهِ شَرُّ مَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى} الْبَيَانَ لِلْحَقِّ الَّذِي بَعَثْنَاهُ بِهِ كَمَا آتَيْنَا ذَلِكَ مُحَمَّدًا فَكَذَّبَ بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، كَمَا كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ مُحَمَّدًا {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} يَقُولُ: وَأَوْرَثَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ، فَعَلَّمْنَاهُمُوهَا، وَأَنْزَلْنَا إِلْيَهَمْ (هُدًى) يَعْنِي بَيَانًا لِأَمْرِ دِينِهِمْ، وَمَا أَلْزَمْنَاهُمْ مِنْ فَرَائِضِهَا، {وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} يَقُولُ: وَتَذْكِيرًا مِنَّا لِأَهْلِ الْحِجَا وَالْعُقُولِ مِنْهُمْ بِهَا. وَقَوْلُهُ: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ لِأَمْرِ رَبِّكَ، وَانْفُذْ لِمَا أَرْسَلَكَ بِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ، وَبَلِّغْ قَوْمَكُ وَمَنْ أُمِرْتَ بِإِبْلَاغِهِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَأَيْقِنْ بِحَقِيقَةِ وَعْدِ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَكَ مِنْ نُصْرَتِكَ، وَنُصْرَةِ مَنْ صَدَّقَكَ وَآمَنَ بِكَ، عَلَى مَنْ كَذَّبَكَ، وَأَنْكَرَ مَا جِئْتَهُ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، وَإِنَّوَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ لَا خَلَفَ لَهُوَهُوَ مُنْجِزٌ لَهُ {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} يَقُولُ: وَسَلْهُ غُفْرَانَ ذُنُوبِكَ وَعَفْوِهِ لَكَ عَنْهُ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} يَقُولُ: وَصَلِّ بِالشُّكْرِ مِنْكَ لِرَبِّكَ (بِالْعَشِيِّ) وَذَلِكَ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى اللَّيْلِ (وَالْإِبْكَارِ) وَذَلِكَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إِلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَقَدْ وَجَّهَ قَوْمٌ الْإِبْكَارَ إِلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى ارْتِفَاعِ الضُّحَى، وَخُرُوجِ وَقْتِ الضُّحَى، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي وَجْهِ عَطْفِ الْإِبْكَارِ وَالْبَاءُ غَيْرُ حَسَنٍ دُخُولُهَا فِيهِ عَلَى الْعَشِيِّ، وَالْبَاءِ تَحْسُنُ فِيهِ، فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْبَصْرَةِ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَفِي الْإِبْكَارِ. وَقَالَ: قَدْ يُقَالُ: بِالدَّارِ زِيدٌ، يُرَادُ: فَى الدَّارِ زِيدٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: صَلِّ بِالْحَمْدِ بِهَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ وَفِي هَذَيْنَ الْوَقْتَيْنِ، فَإِدْخَالُ الْبَاءِ فِي وَاحِدٍ فِيهِمَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنِ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَكَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ مِنَ الْآيَاتِ {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} يَقُولُ: بِغَيْرِ حُجَّةٍ جَاءَتْهُمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِمُخَاصَمَتِكَ فِيهَا {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} يَقُولُ: مَا فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبَرٌ يَتَكَبَّرُونَ مِنْ أَجْلِهِ عَنِ اتِّبَاعِكَ، وَقَبُولِ الْحَقِّ الَّذِي أَتَيْتَهُمْ بِهِ حَسَدًا مِنْهُمْ عَلَى الْفَضْلِ الَّذِي آتَاكَ اللَّهُ، وَالْكَرَامَةُ الَّتِي أَكْرَمَكَ بِهَا مِنَ النُّبُوَّةِ {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} يَقُولُ: الَّذِي حَسَدُوكَ عَلَيْهِ أَمْرٌ لَيْسُوا بُمُدْرِكِيهِ وَلَا نَائِلِيهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَلَيْسَ بِالْأَمْرِ الَّذِي يُدْرَكُ بِالْأَمَانِيِّ؛ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ: إِنَّ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا عَظَمَةً مَا هُمْ بِبَالِغِي تِلْكَ الْعَظَمَةِ لِأَنَّ اللَّهَ مُذِلُّهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ. ثَنِي أَبُو عَاصِمٍ قَالَ. ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} قَالَ: عَظَمَةٌ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ.، قَوْلُهُ. {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} لَمْ يَأْتِهِمْ بِذَاكَ سُلْطَانٌ. وَقَوْلُهُ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَاسْتَجِرْ بِاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ مِنْ شَرِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، وَمِنَ الْكِبْرِ أَنْ يَعْرِضُ فِي قَلَبِكَ مِنْهُ شَيْءٌ {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْلٍ، الْبَصِيرُ بِمَا تَعْمَلُهُ جَوَارِحُهُمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: لَابْتِدَاعِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِنْشَاؤُهَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَعْظَمُ أَيُّهَا النَّاسُ عِنْدَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُسْتَعْظِمِي خَلْقِ النَّاسِ، وَإِنْشَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ خَلْقَ جَمِيعِ ذَلِكَ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِوَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ}. وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى الَّذِي لَا يُبْصِرُ شَيْئًا، وَهُوَ مِثْلُ الْكَافِرِ الَّذِي لَا يَتَأَمَّلُ حُجَجِ اللَّهِ بِعَيْنَيْهِ، فَيَتَدَبَّرُهَا وَيَعْتَبِرُ بِهَا، فَيَعْلَمُ وَحْدَانِيَّتَهُ وَقُدْرَتَهُ عَلَى خَلْقِ مَا شَاءَ مِنْ شَيْءٍ، وَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُصَدِّقُ. وَالْبَصِيرُ الَّذِي يَرَى بِعَيْنَيْهِ مَا شُخِّصَ لَهُمَا وَيُبْصِرُهُ، وَذَلِكَ مَثِلٌ لِلْمُؤْمِنَ الَّذِي يَرَى بِعَيْنَيْهِ حُجَجَ اللَّهِ، فَيَتَفَكَّرُ فِيهَا وَيَتَّعِظُ، وَيَعْلَمُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ صَانِعِهِ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ مَا يَشَاءُ؛ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَلَا يَسْتَوِي أَيْضًا كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، الْمُطِيعُونَ لِرَبِّهِمْ، وَلَا الْمُسِيءُ، وَهُوَ الْكَافِرُ بِرَبِّهِ، الْعَاصِي لَهُ، الْمُخَالِفُ أَمْرَهُ {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ أَيُّهَا النَّاسُ حُجَجَ اللَّهِ، فَتَعْتَبِرُونَ وَتَتَّعِظُونَ؛ يَقُولُ: لَوْ تَذَكَّرْتُمْ آيَاتِهِ وَاعْتَبَرْتُمْ، لَعَرِفْتُمْ خَطَأَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنْ إِنْكَارِكُمْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَى إِحْيَائِهِ مَنْ فَنِيَ مِنْ خَلْقِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَنَاءِ، وَإِعَادَتِهِمْ لِحَيَاتِهِمْ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِمْ، وَعَلِمْتُمْ قُبْحَ شِرْكِكُمْ مَنْ تُشْرِكُونَ فِي عِبَادَةِ رَبِّكُمْ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ: (تَتَذَكَّرُونَ) فَقَرَأَتْ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: "يَتَذَكَّرُونَ" بِالْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْكُوفَةِ: (تَتَذَكَّرُونَ) بِالتَّاءِ عَلَى وَجْهِ الْخِطَابِ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِهِمَا صَوَابٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: إِنَّ السَّاعَةَ الَّتِي يُحَيِي اللَّهُ فِيهَا الْمَوْتَى لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لِجَائِيَةٌٍ أَيُّهَا النَّاسُ لَا شَكَّ فِي مَجِيئِهَا؛ يَقُولُ: فَأَيْقِنُوا بِمَجِيئِهَا، وَأَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ، وَمُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِكُمْ، فَتُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ قُرَيْشٍ لَا يُصَدِّقُونَ بِمَجِيئِهَا. وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَيَقُولُ رَبُّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ لَكُمُ ادْعُونِي: يَقُولُ: اعْبُدُونِي وَأَخْلِصُوا لِي الْعِبَادَةَ دُونَ مَنْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِي مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يَقُولُ: أُجِبْ دُعَاءَكُمْ فَأَعْفُو عَنْكُمْ وَأَرْحَمُكُمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يَقُولُ: وَحِّدُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "«الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَة»" وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، وَالْأَعْمَشِ عَنْ زِرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: " «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}»)... الْآيَةَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ قَالَ أَبُو مُوسَى: هَكَذَا قَالَ غُنْدَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ" {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}»). حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِثْلِهِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ قَالَ: ثَنَا يُوسُفُ بْنُ الْعُرْفِ الْبَاهِلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَحَادَةَ، عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «إِنَّ عِبَادَتِي دُعَائِي" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} قَالَ: "عَنْ دُعَائِي» ". حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: ثَنَا عُمَارَةُ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَتْ لِأُنْسٍ: يَا أَبَا حَمْزَةَ أَبْلَغَكَ أَنَّ الدُّعَاءَ نِصْفُ الْعِبَادَةِ؟ قَالَ: لَا بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ يُسَيْعٍ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}») ". حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: ثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنِ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قِيلَ لِسُفْيَانَ: ادْعُ اللَّهَ، قَالَ: إِنَّ تَرْكَ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} يَقُولُ: إِنَّ الَّذِينَ يَتَعَظَّمُونَ عَنْ إِفْرَادِي بِالْعِبَادَةِ، وَإِفْرَادِ الْأُلُوهَةِ لِي {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} بِمَعْنَى: صَاغِرِينَ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى الدَّخَرِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ دُعَائِي.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} قَالَ: عَنْ دُعَائِي. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (دَاخِرِينَ) قَالَ: صَاغِرِينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًاإِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: اللَّهُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ إِلَّا لَهُ، وَلَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ لِغَيْرِهِ، الَّذِي صِفَتُهُ أَنَّهُ جَعَلَ لَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ اللَّيْلَ سَكَنًا لِتَسْكُنُوا فِيهِ، فَتَهْدَءُوا مِنَ التَّصَرُّفِ وَالِاضْطِرَابِ لِلْمَعَاشِ، وَالْأَسْبَابِ الَّتِي كُنْتُمْ تَتَصَرَّفُونَ فِيهَا فِي نَهَارِكُمْ {وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} يَقُولُ: وَجَعَلَ النَّهَارُ مُبْصِرًا مِنِ اضْطَرَابٍ فِيهِ لِمَعَاشِهِ، وَطَلَبِ حَاجَاتِهِ، نِعْمَةٌ مِنْهُ بِذَلِكَ عَلَيْكُمْ {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَمُتَفَضِّلٌ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِمَا لَا كُفْءَ لَهُ مِنَ الْفَضْلِ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} يَقُولُ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَهُ بِالطَّاعَةِ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الْأُلُوهَةِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، وَلَا يَدَ تَقَدَّمَتْ لَهُ عِنْدَهُ اسْتَوْجَبَ بِهَا مِنْهُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ هَذِهِ النِّعَمَ أَيُّهَا النَّاسُ، اللَّهُ مَالِكُكُمْ وَمُصْلِحُ أُمُورِكُمْ، وَهُوَ خَالِقُكُمْ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} يَقُولُ: لَا مَعْبُودَ تَصْلُحُ لَهُ الْعِبَادَةُ غَيْرُهُ، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} يَقُولُ: فَأَيُّ وَجْهٍ تَأْخُذُونَ، وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبُونَ عَنْهُ، فَتَعْبُدُونَ سِوَاهُ؟. وَقَوْلُهُ: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} يَقُولُ: كَذِهَابِكُمْ عَنْهُ أَيُّهَا الْقَوْمُ، وَانْصِرَافِكُمْ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، وَالرُّشْدِ إِلَى الضَّلَالِ، ذَهَبَ عَنْهُ الَّذِينَ كَانُوا مَنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْأُمَمِ بِآيَاتِ اللَّهِ، يَعْنِي: بِحُجَجِ اللَّهِ وَأَدِلَّتِهِ يُكَذِّبُونَ فَلَا يُؤْمِنُونَ؛ يَقُولُ: فَسَلَكْتُمْ أَنْتُمْ مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَسْلَكَهُمْ، وَرَكِبْتُمْ مَحَجَّتَهُمْ فِي الضَّلَالِِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًاوَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: (اللَّهُ) الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ خَالِصَةٌ أَيُّهَا النَّاسُ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ} الَّتِي أَنْتُمْ عَلَى ظَهْرِهَا سُكَّانٌ (قَرَارًا) تَسْتَقِرُّونَ عَلَيْهَا، وَتَسْكُنُونَ فَوْقَهَا، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}: بَنَاهَا فَرَفَعَهَا فَوْقَكُمْ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا لِمَصَالِحِكُمْ، وَقِوَامِ دُنْيَاكُمْ إِلَى بُلُوغِ آجَالِكُمْ {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} يَقُولُ: وَخَلَقَكُمْ فَأَحْسَنَ خَلْقَكُمْ {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} يَقُولُ: وَرَزَقَكُمْ مِنْ حَلَالِ الرِّزْقِ، وَلَذِيذَاتِ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ. وَقَوْلُهُ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَالَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَفْعَالَ، وَأَنْعَمَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ هَذِهِ النِّعَمَ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْأُلُوهَةُ إِلَّا لَهُ، وَرَبُّكُمُ الَّذِي لَا تَصْلُحُ الرُّبُوبِيَّةُ لِغَيْرِهِ، لَا الَّذِي لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ، وَلَا يَخْلُقُ وَلَا يَرْزُقُ {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ: فَتَبَارَكَ اللَّهُ مَالِكُ جَمِيعِ الْخَلْقِ جِنِّهِمْ وَإِنْسِهِمْ، وَسَائِرِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ غَيْرِهِمْ (هُوَ الْحَيُّ) يَقُولُ: هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، الدَّائِمُ الْحَيَاةَ، وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ فَمُنْقَطِعُ الْحَيَاةِ غَيْرُ دَائِمِهَا (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) يَقُولُ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ تَجُوزُ عِبَادَتُهُ، وَتَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ لَهُ إِلَّا اللَّهُ الَّذِي هَذِهِ الصِّفَاتُ صِفَاتُهُ، فَادْعُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، مُخْلِصِينَ لَهُ الطَّاعَةَ، مُفْرِدِينَ لَهُ الْأُلُوهَةَ، لَا تُشْرِكُوا فِي عِبَادَتِهِ شَيْئًا سِوَاهُ، مِنْ وَثَنٍ وَصَنَمٍ، وَلَا تَجْعَلُوا لَهُ نِدًّا وَلَا عَدْلًا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ: الشُّكْرُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ مَالِكُ جَمِيعِ أَجْنَاسِ الْخَلْقِ، مِنْ مَلَكٍ وَجِنٍّ وَإِنْسٍ وَغَيْرِهِمْ، لَا لِلْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تُمْلُكُ شَيْئًا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، بَلْ هُوَ مَمْلُوكٌ، إِنْ نَالَهُ نَائِلٌ بِسُوءٍ لَمْ يَقْدِرْ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ دَفْعًا. وَكَانَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَأْمُرُونَ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَنْ يَتْبَعَ ذَلِكَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تَأَوَّلًا مِنْهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ، بِأَنَّهَا أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ بِقِيلِ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ قَالَ: ثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلْيَقُلْ عَلَى إِثْرِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانَ السُّكَّرِيِّ قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: "إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَالَ: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ قَالَ: ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَحَبُّ إِذَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُتْبِعُهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِذَا قَالَ أَحَدُكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، فَلْيَقُلْ بِأَثَرِهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَرَأَ {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي قَوْمِكَ مِنْ قُرَيْشٍ (إِنِّي نُهِيتُ) أَيُّهَا الْقَوْمُ {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} يَقُولُ: لَمَّا جَاءَنِيَ الْآيَاتُ الْوَاضِحَاتُ مِنْ عِنْدِ رَبِّي، وَذَلِكَ آيَاتُ كِتَابِِ اللَّهِِ الَّذِي أَنْزَلَهُ {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يَقُولُ: وَأَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أُذَلَّ لِرَبِّ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَالِكِ كُلِّ خَلْقٍ بِالْخُضُوعِ، وَأَخْضَعُ لَهُ بِالطَّاعَةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- آمِرًا نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِتَنْبِيهِ مُشْرِكِي قَوْمِهِ عَلَى حُجَجِهِ عَلَيْهِمْ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ: أُمِرْتُ أَنَّ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي صِفَتُهُ هَذِهِ الصِّفَاتُ. وَهِيَ أَنَّهُ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ {مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ} خَلَقَكُمْ {مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} بُعْدَ أَنْ كُنْتُمْ نُطَفًا {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ صِغَارًا، {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ}، فَتَتَكَامَلُ قُوَاكُمْ، وَيَتَنَاهَى شَبَابُكُمْ، وَتَمَامُ خَلْقِكُمْ شُيُوخًا {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أَنْ يَبْلُغَ الشَّيْخُوخَةَ {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى} يَقُولُ: وَلِتَبْلُغُوا مِيقَاتًا مُؤَقَّتًا لِحَيَاتِكُمْ، وَأَجَلًا مَحْدُودًا لَا تُجَاوِزُونَهُ، وَلَا تَتَقَدَّمُونَ قَبْلَهُ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يَقُولُ: وَكَيْ تَعْقِلُوا حُجَجَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ، وَتَتَدَبَّرُوا آيَاتَهُ فَتَعْرِفُوا بِهَا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَعَلَ ذَلِكَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} يَقُولُ قُلْ لَهُمْ: وَمِنْ صِفَتِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيُمِيتُ مَنْ يَشَاءُ مِنَ الْأَحْيَاءِ بَعْدَ حَيَاتِهِ وَ {إِذَا قَضَى أَمْرًا} يَقُولُ: وَإِذَا قَضَى كَوْنَ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُرِيدُ تَكْوِينَهَا {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ} يَعْنِي لِلَّذِي يُرِيدُ تَكْوِينَهُ كُنْ، فَيَكُونُ مَا أَرَادَ تَكْوِينَهُ مَوْجُودًا بِغَيْرَ مُعَانَاةٍ، وَلَا كُلْفَةِ مُؤْنَةٍ. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} يَقُولُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَمْ تَرَ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قَوْمِكَ، الَّذِينَ يُخَاصِمُونَكَ فِي حُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ {أَنَّى يُصْرَفُونَ} يَقُولُ: أَيُّ وَجْهٍ يَصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ، وَيَعْدِلُونَ عَنِ الرُّشْدِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {أَنَّى يُصْرَفُونَ}: أَنَّى يَكْذِبُونَ وَيَعْدِلُونَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَنَّى يُصْرَفُونَ} قَالَ: يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الَّذِينَ عَنَوْا بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِهَا أَهْلَ الْقَدَرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَا ثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي فِيمَنْ نَزَلَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَاءِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: إِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلَ الْقَدَرِ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَلَا عِلْمَ لَنَا بِهِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَبِي الْخَيْرِ الزِّيَادَيُّ، عَنْ أَبِي قُبَيْلٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَقَبَةُ بْنُ عَامِرٍ الْجُهَنِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: " «سَيُهْلَكُ مِنْ أُمَّتِي أَهْلُ الْكِتَابِ، وَأَهْلُ اللِّينِ" فَقَالَ عَقَبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِِ، وَمَا أَهْلُ الْكِتَابِ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَتَعَلَّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ يُجَادِلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا"، فَقَالَ عَقَبَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِِ، وَمَا أَهْلُ اللِّينِ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ، وَيُضَيِّعُونَ الصَّلَوَات» ". قَالَ أَبُو قُبَيْلٍ: لَا أَحْسَبُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ إِلَّا الَّذِينَ يُجَادِلُونَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَمَّا أَهْلُ اللِّينِ، فَلَا أَحْسَبُهُمْ إِلَّا أَهْلَ الْعَمُودِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِمَامُ جَمَاعَةٍ، وَلَا يَعْرِفُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِهِ أَهْلُ الشِّرْكِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يَصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ؛ وَ "الذِينَ" الثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا لَهَا عَلَى "الذِينَ" الْأُولَى عَلَى وَجْهِ النَّعْتِ {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} يَقُولُ: وَكَذَّبُوا أَيْضًا مَعَ تَكْذِيبِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا مِنْ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِمَّا يَعْبُدُ دُونَهُ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَنْدَادِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَمَاتِ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَوْلُهُ: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ}، وَهَذَا تَهْدِيدٌ مِنَ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ؛ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَسَوْفَ يَعْلَمُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، الْمُكَذِّبُونَ بِالْكِتَابِ حَقِيقَةَ مَا تُخْبِرُهُمْ بِهِ يَا مُحَمَّدُ، وَصِحَّةَ مَا هُمْ بِهِ الْيَوْمَ مُكَذِّبُونَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، حِينَ تُجْعَلُ الْأَغْلَالُ وَالسَّلَاسِلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ فِي جَهَنَّمَ. وَقَرَأْتُ قِرَاءَةَ الْأَمْصَارِ: وَالسَّلَاسِلُ، بِرَفْعِهَا عَطْفًا بِهَا عَلَى الْأَغْلَالِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنْتُ. وَذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ"وَالسَّلَاسِلَ يُسْحَبُونَ" بِنَصْبِ السَّلَاسِلِ فِي الْحَمِيمِ. وَقَدْ حُكِيَ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ وَهُمْ فِي السَّلَاسِلِ يَسْحَبُونَ، وَلَا يُجِيزُ أَهْلُ أَلِعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ خَفُضَ الِاسْمِ وَالْخَافِضُ مُضْمَرٌ. وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ فِي ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ مُتَوَهِّمًا قَالَ: إِنَّمَا الْمَعْنَى: إِذْ أَعْنَاقُهُمْ فِي الْأَغْلَالِ وَالسُّلَالِ يَسْبَحُونَ. جَازَ الْخَفْضُ فِي السَّلَاسِلِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ، وَقَالَ مِثْلُهُ: مِمَّا رُدَّ إِلَى الْمَعْنَى. قَوْلُ الشَّاعِرِ: قَدْ سَالَمَ الْحَيَّاتُ مِنْهُ الْقَدَمَا *** الْأَفْعُوَانَ وَالْشُّجَاعَ الْأَرْقَمَا فَنَصَبَ الشُّجَاعَ وَالْحَيَّاتَ قَبْلَ ذَلِكَ مَرْفُوعَةٌ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: قَدْ سَالَمَتْ رِجْلَهُ الْحَيَّاتُ وَسَالَمَتْهَا، فَلَمَّا احْتَاجَ إِلَى نَصْبِ الْقَافِيَةِ، جَعَلَ الْفِعْلَ مِنَ الْقَدَمِ وَاقِعًا عَلَى الْحَيَّاتِ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا فَى ذَلِكَ مَا عَلَيْهِ قُرَّاءُ الْأَمْصَارُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَفْعُ السَّلَاسِلِ عَطْفًا بِهَا عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ: {فِي أَعْنَاقِهِمْ} مِنْ ذِكْرِ الْأَغْلَالِ. وَقَوْلُهُ: (يُسَبِّحُونَ) يَقُولُ: يَسْحَبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْكِتَابِ زَبَانِيَةُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْحَمِيمِ، وَهُوَ مَا قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ، وَبَلَغَ غَايَتَهُ. وَقَوْلُهُ {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} يَقُولُ: ثُمَّ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَحْرُقُونَ، يَقُولُ: تُسْجَرُ بِهَا جَهَنَّمُ: أَيْ تُوقَدُ بِهِمْ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: (يُسْجَرُونَ) قَالَ: يُوقَدُ بِهِمُ النَّارَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ. قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} قَالَ: يُحْرَقُونَ فِي النَّارِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} قَالَ: يُسْجَرُونَ فِي النَّارِ: يُوقَدُ عَلَيْهِمْ فِيهَا. وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يَقُولُ: ثُمَّ قِيلَ: أَيْنَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ آلِهَتِكُمْ وَأَوْثَانِكُمْ حَتَّى يُغِيثُوكُمْ فَيُنْقِذُوكُمْ مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْعَذَابِ، فَإِنَّ الْمَعْبُودَ يُغِيثُ مِنْ عَبَدَ وَخَدَمَهُ؛ وَإِنَّمَا يُقَالُ هَذَا لَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَطَاعَةِ الشَّيْطَانِ، فَأَجَابَ الْمَسَاكِينَ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالُوا: ضَلُّوا عَنَّا: يَقُولُ: عَدَلُوا عَنَّا، فَأَخَذُوا غَيْرَ طَرِيقِنَا، وَتَرَكُونَا فِي هَذَا الْبَلَاءِ، بَلْ مَا ضَلُّوا عَنَّا، وَلَكُنَّا لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ فِي الدُّنْيَا شَيْئًا: أَيْ لَمْ نَكُنْ نَعْبُدُ شَيْئًا؛ يَقُولُ اللَّهُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} يَقُولُ: كَمَا أَضَلَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ضَلَّ عَنْهُمْ فِي جَهَنَّمَ مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الدُّنْيَا مَنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ وَالْأَوْثَانِ آلِهَتُهُمْ وَأَوْثَانُهُمْ، كَذَلِكَ يَضِلُّ اللَّهُ أَهْلَ الْكُفْرِ بِهِ عَنْهُ، وَعَنْ رَحْمَتِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَلَا يَرْحَمُهُمْ فَيُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ، وَلَا يُغِيثُهُمْ فَيُخَفِّفُ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}. يَعْنِي- تَعَالَى ذِكْرُهُ- بِقَوْلِهِ: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هَذَا الَّذِي فَعَلْنَا الْيَوْمَ بِكُمْ أَيُّهَا الْقَوْمُ مِنْ تَعْذِيبِنَاكُمُ الْعَذَابَ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، بِفَرَحِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُفْرِحُونَهُ فِي الدُّنْيَا، بِغَيْرِ مَا أَذِنَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْمَعَاصِي، وَبِمَرَحِكُمْ فِيهَا، وَالْمَرَحُ: هُوَ الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} إِلَى {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} قَالَ: الْفَرَحُ وَالْمَرَحُ: الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ، وَالْعَمَلُ فِي الْأَرْضِ بِالْخَطِيئَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ لِقَارُونَ: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} وَذَلِكَ فِي الشِّرْكِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} قَالَ: تَبْطُرُونَ وَتَأْشَرُونَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَوْلَهُ: (تَمْرَحُونَ) قَالَ: تَبْطُرُونَ. وَقَوْلُهُ: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لَهُمْ: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ السَّبْعَةَ مِنْ كُلِّ بَابٍ مِنْهَا جُزْءٌ مَقْسُومٌ مِنْكُمْ {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} يَقُولُ: فَبِئْسَ مَنْزِلَ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُوَحِّدُوهُ، وَيُؤْمِنُوا بِرُسُلِهِ الْيَوْمَ جَهَنَّمُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا يُجَادِلُكَ بِهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ الَّتِي أَنْزَلْنَاهَا عَلَيْكَ، وَعَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لَكَ فِيهِمْ مَا وَعَدَكَ مِنَ الظَّفَرِ عَلَيْهِمْ، وَالْعُلُوِّ عَلَيْهِمْ، وَإِحْلَالِ الْعِقَابِ بِهِمْ، كَسُنَّتِنَا فِي مُوسَى بْنِ عُمْرَانَ وَمَنْ كَذَّبَهُ {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ يَا مُحَمَّدُ فِي حَيَاتِكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَذَابِ وَالنِّقْمَةِ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قُبَلَ أَنْ يَحِلَّ ذَلِكَ بِهِمْ {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} يَقُولُ: فَإِلَيْنَا مَصِيرُكَ وَمَصِيرُهُمْ، فَنَحْكُمُ عِنْدَ ذَلِكَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ بِتَخْلِيدِنَاهُمْ فِي النَّارِ، وَإِكْرَامِنَاكَ بِجِوَارِنَا فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَوَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ- لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} يَا مُحَمَّدُ {رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ} إِلَى أُمَمِهَا {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} يَقُولُ: مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمِهِمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ نَبَأُهُمْ {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} نَبَأُهُمْ. وَذُكِرَ عَنْ أُنْسٍ أَنَّهُمْ ثَمَانِيَةُ آلَافٍ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ شُعَيْبٍ السِّمْسَارُ قَالَ: ثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُهَاجِرِ بْنُ مِسْمَارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بُعِثَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ثَمَانِيَةِ آلَافٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: ثَنَا يُونُسُ، عَنْ عَتَبَةَ بْنِ عُتَيْبَةَ الْبَصْرِيِّ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَهْلٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سُورٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ سَلْمَانَ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «: "بَعَثَ اللَّهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ نَبِيٍّ » ". حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنٍ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: ثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: ثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَبِيًّا، فَهُوَ الَّذِي لَمَّ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: وَمَا جَعَلَنَا لِرَسُولٍ مِمَّنْ أَرْسَلْنَاهُ مِنْ قَبْلِكَ الَّذِينَ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ، وَالَّذِينَ لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ إِلَى أُمَمِهَا أَنْ يَأْتِيَ قَوْمَهُ بِآيَةٍ فَاصِلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ بِذَلِكَ، فَيَأْتِيهِمْ بِهَا؛ يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ: فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ لَكَ أَنْ تَأْتِيَ قَوْمَكَ بِمَا يَسْأَلُونَكَ مِنَ الْآيَاتِ دُونَ إِذْنِنَا لَكَ بِذَلِكَ، كَمَا لَمْ نَجْعَلْ لِمَنْ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا إِلَّا أَنْ نَأْذَنَ لَهُ بِهِ {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} يَعْنِي بِالْعَدْلِ، وَهُوَ أَنْ يُنْجِيَ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُمْ {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} يَقُولُ: وَهَلَكَ هُنَالِكَ الَّذِينَ أَبْطَلُوا فِي قَيْلِهِمُ الْكَذِبَ، وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَادِّعَائِهِمْ لَهُ شَرِيكًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: (اللَّهُ) الَّذِي لَا تَصْلُحُ الْأُلُوهَةُ إِلَّا لَهُ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ بِهِ مِنْ قُرَيْشٍ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْبَهَائِمِ الَّتِي يَقْتَنِيهَا أَهْلُ الْإِسْلَامِ لِمَرْكَبٍٍ أَوْ لِمَطْعَمٍ {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} يَعْنِي: الْخَيْلَ وَالْحَمِيرَ {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ. وَقَالَ: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} وَمَعْنَاهُ: لِتَرْكَبُوا مِنْهَا بَعْضًا وَمِنْهَا بَعْضًا تَأْكُلُونَ، فَحَذَفَ اسْتِغْنَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى مَا حَذَفَ. وَقَوْلُهُ: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} وَذَلِكَ أَنْ جَعْلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِهَا بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ، وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ. وَقَوْلُهُ: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} يَقُولُ: وَلِتَبْلُغُوا بِالْحُمُولَةِ عَلَى بَعْضِهَا، وَذَلِكَ الْإِبِلُ حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهَا لَوْلَا هِيَ، إِلَّا بِشِقِّ أَنْفُسِكُمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِ الْأَنْفُسِ} وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} يَعْنِي الْإِبِلَ تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} لِحَاجَتِكُمْ مَا كَانَتْ. وَقَوْلُهُ: (وَعَلَيْهَا) يَعْنِي: وَعَلَى هَذِهِ الْإِبِلِ، وَمَا جَانَسَهَا مِنَ الْأَنْعَامِ الْمَرْكُوبَةِ {وَعَلَى الْفُلْكِ} يَعْنِي: وَعَلَى السُّفُنِ (تُحْمَلُونَ) يَقُولُ نَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذِهِ فِي الْبَرِّ، وَعَلَى هَذِهِ فِي الْبَحْرِ {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} يَقُولُ: وَيُرِيكُمْ حُجَجَهُ، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} يَقُولُ: فَأَيُّ حُجَجِ اللَّهِ الَّتِي يُرِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ تُنْكِرُونَ صِحَّتَهَا، فَتُكَذِّبُونَ مِنْ أَجْلِ فَسَادِهَا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَتَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْكَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: أَفَلَمْ يَسِرْ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِكَ فِي الْبِلَادِ، فَإِنَّهُمْ أَهْلُ سَفَرٍ إِلَى الشَّامِ وَالْيَمَنِ، رِحْلَتَهُمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَيَنْظُرُوا فِيمَا وَطِئُوا مِنَ الْبِلَادِ إِلَى وَقَائِعِنَا بِمَنْ أَوْقَعَنَا بِهِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهُمْ، وَيَرَوْا مَا أَحْلَلْنَا بِهِمْ مِنْ بَأْسِنَا بِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَنَا، وَجُحُودِهِمْ آيَاتِنَا، كَيْفَ كَانَ عُقْبَى تَكْذِيبِهِمْ {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} يَقُولُ: كَانَ أُولَئِكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِيكَ مِنْ قُرَيْشٍ أَكْثَرَ عَدَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَشَدَّ بَطْشًا، وَأَقْوَى قُوَّةً، وَأَبْقَى فِي الْأَرْضِ آثَارًا، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَيَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ. وَكَانَ مُجَاهِدٌ يَقُولُ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} الْمَشْيُ بِأَرْجُلِهِمْ. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} يَقُولُ: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بَأْسُنَا وَسَطْوَتُنَا،. لَمْ يُغْنِ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الْبُيُوتِ فِي الْجِبَالِ، وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ ذَلِكَ شَيْئًا. وَلَكِنَّهُمْ بَادُوا جَمِيعًا فَهَلَكُوا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} فَأَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ؛ وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ"مَا" الْأُولَى فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَالثَّانِيَةُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ. يَقُولُ: فَلِهَؤُلَاءِ الْمُجَادَلِيكَ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ فِي أُولَئِكَ مُعْتَبَرٌ إِنِ اعْتَبَرُوا، وَمُتَّعَظٌ إِنِ اتَّعَظُوا، وَإِنَّ بَأْسَنَا إِذَا حَلَّ بِالْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَمْ يَدْفَعْهُ دَافِعٌ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ، وَهُوَ بِهِمْ إِنْ لَمْ يُنِيبُوا إِلَى تَصْدِيقِكَ وَاقِعٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِوَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَلَمَّا جَاءَتْ هَؤُلَاءِ الْأُمَمَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ قُرَيْشٍ الْمُكَذِّبَةِ رُسُلَهَا رُسُلُهُمُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ، يَعْنِي: بِالْوَاضِحَاتِ مِنْ حُجَجِ عَزَّ وَجَلَّ {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} يَقُولُ: فَرِحُوا جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَقَالُوا: لَنْ نُبْعَثَ، وَلَنْ يُعَذِّبَنَا اللَّهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} قَالَ: قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ، لَنْ نُعَذَّبَ، وَلَنْ نُبْعَثَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} بِجَهَالَتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} يَقُولُ: وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَا كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ رُسُلَهُمْ بِهِ اسْتِهْزَاءً وَسُخْرِيَةً. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى؛ وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَوْلَهُ: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ مِنَ الْحَقِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَلَمَّا رَأَتْ هَذِهِ الْأُمَمُ الْمُكَذِّبَةُ رُسُلَهَا بَأْسَنَا، يَعْنِي عِقَابَ اللَّهِ الَّذِي وَعَدَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ قَدْ حَلَّ بِهِمْ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} قَالَ: النَّقَمَاتُ الَّتِي نَزَلَتْ بِهِمْ. وَقَوْلُهُ {قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} يَقُولُ: قَالُوا: أَقْرَرْنَا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} يَقُولُ: وَجَحَدْنَا الْآلِهَةَ الَّتِي كُنَّا قَبْلَ وَقْتِنَا هَذَا نُشْرِكُهَا فِي عِبَادَتِنَا اللَّهَ وَنَعْبُدُهَا مَعَهُ، وَنَتَّخِذُهَا آلِهَةً، فَبَرِئْنَا مِنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}. يَقُولُ- تَعَالَى ذِكْرُهُ-: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ تَصْدِيقُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عِقَابِهِ قَدْ نَزَلَ، وَعَذَابِهِ قَدْ حَلَّ، لِأَنَّهُمْ صَدَقُوا حِينَ لَا يَنْفَعُ التَّصْدِيقُ مُصَدِّقًا، إِذْ كَانَ قَدْ مَضَى حُكْمُ اللَّهِ فِي السَّابِقِ مِنْ عِلْمِهِ، أَنَّ مَنْ تَابَ بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ مِنَ اللَّهِ عَلَى تَكْذِيبِهِ لَمْ تَنْفَعْهُ تَوْبَتُهُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}: لِمَّا رَأَوْا عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} يَقُولُ: تَرَكَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِقَالَتَهُمْ، وَقَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُمْ، وَمُرَاجَعَتَهُمُ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ، وَتَصْدِيقَ رُسُلَهُمْ بَعْدَ مُعَايَنَتِهِمْ بَأْسَهُ، قَدْ نَزَلَ بِهِمْ سُنَّتُهُ الَّتِي قَدْ مَضَتْ فِي خَلْقِهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُقِلْهُمْ وَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُمْ فِي تِلْكَ الْحَالِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} يَقُولُ: كَذَلِكَ كَانَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ لَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} يَقُولُ: وَهَلَكَ عِنْدَ مَجِيءِ بَأْسِ اللَّهِِ، فَغَبَنَتْ صَفْقَتُهُ وَوَضَعَ فِي بَيْعِهِ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا، وَالْمَغْفِرَةَ بِالْعَذَابِ، وَالْإِيمَانَ بِالْكُفْرِ، الْكَافِرُونَ بِرَبِّهِمُ الْجَاحِدُونَ تَوْحِيدَ خَالِقِهِمْ، الْمُتَّخِذُونَ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ بَارِئِهِمْ آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ
|